في مجال الإدارة الاستراتيجية للمنظمات العامة والحكومية، تكمن المخاطر الأكثر جسامة والفرص الأكثر قيمة تحت سطح الأحداث اليومية. إن القادة الذين يبنون استراتيجياتهم استجابة للمشكلات الظاهرة والتقارير الفورية، يشبهون من يدير سفينة بالاعتماد فقط على قمة جبل الجليد المنظورة، متجاهلين الكتلة الهائلة والخفية التي تملك القدرة الحقيقية على تحديد المسار أو إغراق السفينة بأكملها.
إن الخطوة الأولى والأساسية في "منهجية تفكير" هي إتقان فن التشخيص العميق للواقع. نحن لا نعتمد على الأطر التقليدية التي تكتفي بتصنيف الملاحظات السطحية. بدلاً من ذلك، نتبنى "نموذج جبل الجليد" كأداة تحليلية قوية للتمييز بين ما هو عابر وما هو هيكلي، بين الأعراض وأسبابها الجذرية. إن "فهم الوضع الراهن" في منظورنا ليس عملية جرد، بل هو تحقيق استراتيجي يكشف عن القوى الخفية التي تشكل واقع منظمتك ومستقبلها.
تشريح جبل الجليد: مستويات الواقع الاستراتيجي الأربعة
لفهم الواقع بشكل كامل، يجب تفكيكه إلى مستوياته المترابطة. كل مستوى يفسر المستوى الذي فوقه، والتدخل الأكثر فعالية يحدث دائمًا في أعمق مستوى ممكن.
المستوى الأول: الأحداث (The Tip of the Iceberg)
هذا هو المستوى الظاهر الذي نراه ونتفاعل معه كل يوم: أزمة في العلاقات العامة، تقرير أداء ربع سنوي، شكوى من أحد المستفيدين، إطلاق خدمة جديدة. هذا هو عالم "رد الفعل". الإدارة التي تعمل على هذا المستوى فقط تجد نفسها دائمًا في حالة إطفاء حرائق، تنتقل من أزمة إلى أخرى دون معالجة الأسباب.
المستوى الثاني: الأنماط والاتجاهات (Just Below the Surface)
هنا نبدأ بالغوص تحت السطح. هذا المستوى يتعلق برصد تكرار الأحداث بمرور الوقت. شكوى واحدة هي حدث، لكن تكرار نفس الشكوى كل شهر هو نمط. انخفاض الأداء في تقرير واحد هو حدث، لكن انخفاضه لثلاثة أرباع متتالية هو اتجاه. التحليل على هذا المستوى يسمح لنا بالتحول من رد الفعل إلى التوقع.
المستوى الثالث: الهياكل النظامية (The Deep Structure)
هذا هو المستوى الذي يجيب على سؤال "لماذا؟". ما الذي يسبب هذه الأنماط؟ الهياكل هي "قواعد اللعبة" الخفية: السياسات، الإجراءات، الهياكل التنظيمية، وتدفق السلطة والمعلومات. على سبيل المثال، نمط "تأخر المشاريع" قد يكون سببه هيكل موافقات معقد وبيروقراطي. تغيير الهيكل يغير النمط تلقائيًا.
المستوى الرابع: النماذج الذهنية (The Deepest Foundation)
هذا هو أعمق مستوى وأكثرها تأثيرًا. إنه مستوى المعتقدات، القيم، والافتراضات الراسخة التي يحملها الأفراد والتي تدعم وجود الهياكل النظامية. لماذا لدينا هيكل موافقات معقد؟ قد يكون السبب هو نموذج ذهني قائم على "انعدام الثقة" أو "الخوف من اتخاذ القرارات". تغيير النماذج الذهنية هو الأصعب، لكنه التدخل الوحيد الذي يخلق تحولاً حقيقيًا ومستدامًا.
منهجية التشخيص: طرح الأسئلة الصحيحة
منهجية "تفكير" تطبق هذا النموذج من خلال طرح أسئلة استقصائية دقيقة في كل مستوى، مما يحول التحليل من عملية سلبية إلى حوار استراتيجي نشط.
- على مستوى الأحداث: ما الذي حدث للتو؟ من تأثر به؟ كيف استجبنا؟
- على مستوى الأنماط: هل رأينا هذا من قبل؟ ما هي البيانات التي تثبت تكرار هذا النمط؟ ما هي وتيرة واتجاه هذا الاتجاه؟
- على مستوى الهياكل: ما هي السياسات أو الإجراءات التي تساهم في استمرار هذا النمط؟ كيف يؤثر هيكل السلطة وتوزيع الموارد على هذا الوضع؟ ما هي "قواعد اللعبة" غير المكتوبة؟
- على مستوى النماذج الذهنية: ما هي الافتراضات التي نتمسك بها والتي تجعل هذا الهيكل يبدو منطقيًا؟ ما هي القيم التي نعطيها الأولوية دون وعي؟ ما الذي يجب أن نؤمن به بشكل مختلف لإحداث تغيير جذري؟